فصل: الحكم الخامس: هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.لطائف:

اللطيفة الأولى:
علّل تعالى قوامة الرجال على النساء بتعليلين:
أحدهما: وهبي، والآخر كسبي، وأورد العبارة بصيغة المبالغة {قوامون عَلَى النساء}، للإشارة إلى كامل الرئاسة والولاية عليهن كما يقوم الولاة على الرعايا، فلهم حق الأمر، والنهي، والتدبير والتأديب، وعليهم كامل المسؤولية في الحفظ والرعاية والصيانة، وهذا هو السر في مجيء الجملة اسمية.
اللطيفة الثانية:
قال صاحب الكشاف: ذكروا في فضل الرجال أمورًا منها: العقل، والحزم، والعزم، والقوة، وأن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والشهادة في الحدود، والقصاص، والزيادة في الميراث، والولاية في النكاح، وإليهم الانتساب، وغير ذلك.
اللطيفة الثالثة:
ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ولو قال بما فضلهم عليهن أو قال بتفضيلهم عليهن لكان أوجز وأخصر، ولكنّ التعبير يورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة، وهي إفادة أن المرأة من الرجل، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته، ورأسه أشرف من يده، فالكل يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر. ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم، والدين، والعمل، وكما يقول الشاعر:
ولو كان النساء كمن ذكرنا ** لفضلت النساء على الرجال

وبهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز.
اللطيفة الرابعة:
لم يذكر الله تعالى في الآية إلاّ (الإصلاح) ولم يذكر ما يقابله وهو (التفريق) بين الزوجين، وفي ذلك لطيفة دقيقة، وإرشاد من الله تعالى للحكمين إلى أنه ينبغي أن لا يدَّخرًا وسعًا في الإصلاح، فإن في التفريق خراب البيوت، وفي التوفيق الألفة والمودة والرحمة، وغرضُ الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام.
اللطيفة الخامسة:
قال الزمخشري: وإنما كان الحكمان من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإليهم تسكن نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض، وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته، وما يزويانه عن الأجانب، ولا يحبان أن يطلعوا عليه.
اللطيفة السادسة:
ذكر الشعبي أن شريحًا تزوج امرأة من بني تميم يقال لها (زينب) فلما تزوجها ندم حتى أراد أن يرسل إليها بطلاقها، ثم قال: لا أعجل حتى يجاء بها، فلما جيء بها تشهّدت ثم قالت: أما بعد فقد نزلنا منزلًا لا ندري متى نظعن منه، فانظر الذي تكره، هل تكره زيارة الأخْتان؟ فقلت: إني شيخ كبير لا أكره المرافقة، وإني لأكره ملال الأخْتان، قال: فما شرطتُ شيئًا إلاّ وفت به، فأقامت سنة ثم جئت يومًا ومعها في الحَجَلة إنس، فقلت: إنّا لله، فقالت: أبا أمية إنها أمي، فسلّم عليها فقالت: انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها، قال: فصحبتني ثم هلكت قبلي، قال: فوددت أني قاسمتها عمري، أو مت أنا وهي في يوم واحد، وأنشد شريح:
رأيت رجالًا يضربون نساءهم ** فشلّت يميني حين أضرب زينبًا

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هي الخطوات التي أرشد إليها الإسلام لمعالجة نشوز المرأة؟

أرشدت الآية الكريمة إلى الطريقة الحكيمة في معالجة نشوز المرأة ودعت إلى الخطوات التالية:
أولًا: النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ}.
ثانيًا: الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع}.
ثالثًا: الضرب غير المبرح بسواك ونحوه تأديبًا لها، لقوله تعالى: {واضربوهن}.
رابعًا: إذا لم تُجْد كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى: {فابعثوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا}.
وأما الضرب فقد وضّحه عليه السلام بقوله: «فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبّرح».
قال ابن عباس وعطاء: الضرب غير المبّرح بالسواك، وقال قتادة: ضربًا غير شائن.
وقال العلماء: ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه.
وقد سئل عليه السلام: ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت».
ومع أن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل لقوله عليه السلام: «ولن يضرب خياركم».

.الحكم الثاني: هل هذه العقوبات مشروعة على الترتيب؟

اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟
فقال جماعة من أهل العلم إنها على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، ثم الضرب، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز.
ومنشأ الخلاف بين العلماء اختلافهم في فهم الآية، فمن رأى الترتيب قال إن (الواو) لا تقتضي الترتيب بل هي لمطلق الجمع، فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أيًا كانت، وله أن يجمع بينها.
ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ يدل على الترتيب، والآية وردت على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي ثم إلى الأقوى فإنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك جار مجرى التصريح بوجوب الترتيب، فإذا حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد.
أقول: لعل هذا هو الأرجح لظاهر الآية الكريمة والله أعلم.
قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير فقد قال: يعظها فإن هي قبلت وإلاّ هجرها، فإن هي قبلت وإلاّ ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع.
وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك فإنه قال: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.

.الحكم الثالث: هل يجوز في الحكمين أن يكونا من غير الأقارب؟

ظاهر الآية أنه يشترط في الحكمين أن يكونا من الأقارب لقوله تعالى: {حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} وأن ذلك على سبيل الوجوب، ولكن العلماء حملوه على وجه الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، لأن فائدة الحكمين التعرف على أحوال الزوجين وإجراء الصلح بينهما، والشهادة على الظالم منهما، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين، طلبًا للإصلاح من الأجانب، وأبعد عن التهمة بالميل لأحد الزوجين، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة.
قال الألوسي: وخُصّ الأهل لأنهم أطلب للصلاح، وأعرف بباطن الحال، وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصّبا من الأجانب جاز.

.الحكم الرابع: من المخاطب في الآية الكريمة {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}:

الخطاب في الآية السابقة للأزواج لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} وهذا من حق الزوج، والخطاب هنا للحكام، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة، وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، بيّن تعالى أنه إذا لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وهو السلطان الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ.
وروي عن السُدّي أن الخطاب للزوجين. وهذا القول مرجوح.
وظاهر الأمر في قوله تعالى: {فابعثوا} أنه للوجوب وبه قال الشافعي رحمه الله، لأنه من باب رفع الظُّلامات وهو من الفروض العامة الواجبة على الولاة.

.الحكم الخامس: هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما؟

اختلف الفقهاء في الحكمين هل لهما الجمع والتفريق بدون إذن الزوجين أم ليس لهما تنفيذ أمر بدون إذنهما؟
فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأنهما وكيلان عنهما، ولابد من رضى الزوجين فيما يحكمان به، وهو مروي عن (الحسن البصري) و(قتادة) و(زيد بن أسلم).
وذهب مالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة، فإن رأيا التطليق طلّقا، وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعلا، فهما حاكمان موليان، من قبل الإمام وينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن (علي) و(ابن عباس) و(الشعبي).
وللشافعي في المسألة قولان.
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلٍ من الرأيين.
فالحجة للرأي الأول: أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح {إِن يُرِيدَا إصلاحا} وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما، ولأنهما وكيلان ولا ينفذ حكمهما إلا برضى الموكل.
والحجة للرأي الثاني: أن الله تعالى سمّى كلًا منهما حكمًا {فابعثوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} والحكم هو الحاكم، ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم سخط.
قال الجصاص: قال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلاّ أن يرضى الزوج، وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما، ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع، ولا على ردّ مهرها، فكذلك بعد بعث الحكمين لا يجوز إلا برضى الزوجين وهو اختيار الطبري.
قال الطبري: وليس للحكمين ولا لواحد منهما الحكم بالفرقة بينهما، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك.
أقول: ولعلّ الرأي الأول هو الأرجح لقوة الدليل وهذا ما اختاره الطبري رحمه الله والله أعلم.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- للزوج حق تأديب زوجته ومنعها من الخروج من المنزل إلا بإذنه.
2- على الزوجة طاعة زوجها في حدود ما أمر الله لا في المعصية.
3- ضرورة التحكيم إذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح من قبل الزوج.
4- على الحكمين أن يبذلا أقصى ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
قضت السنة الكونية وظروف الحكياة الاجتماعية، أن يكون في الأسرة قيّم، يدير شؤونها، ويتعهد أحوالها، وينفق من ماله عليها، لتؤدي رسالتها على أكمل الوجوه، ولتكون نواة للمجتمع الإنساني الذي ينشده الإسلام، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع، وفي فساد الأسرة وخرابها خراب المجتمع.
ولما كان الرجل أقدر على تحمل هذه المسؤولية من المرأة، بما وهبه الله من العقل، وقوة العزيمة والإرادة، وبما كلّفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد، كان هو الأحق بهذه القوامة، التي هي في الحقيقة درجة (مسؤولية وتكليف) لا درجة (تفضيل وتشريف) إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء، وليست للسيطرة والاستعلاء، إذ لابد لكل أمر هام من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة. وقد جعل الله للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير، والحفظ والصيانة، ولعل أخبث ما يتخذه أعداء الإسلام ذريعة للطعن في دين الله، زعمهم أن الإسلام أهان المرأة حين سمح للرجل أن يضربها ويقولون: كيف يسمح الله بضرب النساء، وكيف يحوي كتابه المقدس هذا النص {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن}؟! أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة!!